البشارية والعبابدة حراس حدود الصحراء الأشداء
بقلم مسعود شومان
يمثل أقصى الجنوب الشرقي لمصر (حلايب ـ أبو رماد ـ الشلاتين) منطقة شديدة التنوع والثراء فى عناصر الثقافة الشعبية، حيث تحتضن المنطقة جبال وهضاب البحر الأحمر من ناحية، بينما تطل أو يطل عليها البحر من الناحية الأخرى، فضلا عن قربها من الحدود السودانية، إضافة لاتصالها بالجانب الآخر من البحر الأحمر بما يجعلها منطقة اتصال ثقافي، فعلى الرغم من احتفاظ قبائل المنطقة البشارية – العبابدة بعناصر ثقافتها التقليدية إلا أن دراسة المنطقة تشير إلى علائق عميقة بينها والمناطق الجغرافية الأخرى المشاطئة للبحر الأحمر ونأمل أن تعمق هذه الدراسة التعرف علي المنطقة أنثروبولوجيا وفولكلوريا والتعرف على العناصر المشتركة وعناصر الاختلاف.
الملامح الرئيسة
يقع مثلث حلايب ـ شلاتين ـ أبو رماد فى أقصى الجـزء الجنوبي من الصحراء الشرقية، وينحصر بين خطى عرض 22، 24 شمالاً، وخطى طول 37 درجة شرقا، 34 درجة غرباً من أهم مـدن المنطقة من الشمال إلى الجنوب: برنيس ـ شلاتين ـ أبو رماد ـ حلايب، وتعد مدينة الشلاتين المركز الرئيس فى المنطقة، حيث تبعد عن حلايب حوالي 180 كم، وعن " أبو رماد " 135 كم، وعن برنيس 110 كم، وعن الغردقـة 555 كم، وعن مرسى علم 260 كم، كما تبعد عن محافظة قنا حوالي 660 كم، وعن مدينة إدفو 480 كم، وعن أسوان حوالي 330 كم. ويعد الجزء الجنوبي من الصحراء الشرقية منطقة جبلية وعرة، فيما عدا السهل الساحلي الذي يتراوح عرضه بين خمسة كيلو مترات وثلاثين كيلو متراً. فالسلاسل الجبلية الممتدة من الجنوب إلى الشمال موازية وملاصقة فى بعض المناطق للبحر الأحمر، وهذه الجبال متصلة ببعضها البعض، لكنها تترك سهلاً ضيقاً عبارة عن أرض منحدرة نحو البحر، قليلة الارتفاع عن سطحه. وهذا السهل الساحلي أكثر اتساعا فى مصر عنه فى البلاد المطلة على البحر الأحمر. وجبال البحر الأحمر ليست متساوية فى ارتفاعها، كما أنها تختلف فى درجات الوعورة، ويزيد ارتفاع بعضها عن ألف وخمسمائة متر فوق سطح البحر، وهى تنحدر انحدارا فجائيا وتدريجيا من ناحية الغرب، كذلك فهي تنحدر بشكل أشد حدة من ناحية البحر، أما المنطقة المنحصرة بين الجبال ونهر النيل غرباً فتنحدر تدريجيا من حيث الارتفاع والوعورة إلى السهولة حتى النهر
مناخ ومياه
منطقة المدروسة من المناطق التى يسودها المناخ الصحراوي المدارى، وهو مناخ جاف صيفا، يميل إلى البرودة شتاءً، ويسود القسم الشمالي من الهضبة الجنوبية رياح جافة، أما القسم الجنوبي فيخضع لتأثير الرياح الجنوبية الشرقية الرطبة، ولهذه المنطقة فصلان للأمطار؛ أولهما بين شهري مارس ومايو، وثانيهما فى شهري أكتوبر ونوفمبر، وتعتمد الصحراء بصفة عامة على الأمطار التى تسقط على سلاسل جبال البحر الأحمر التى قد تنساب فى بعض الفصول على هيئة سيول تنحدر إما شرقا، وإما غربا فى اتجاه النيل، وتتسرب السيول حيث الرمال والحصى، وقد تتجمع إذا اعترض مسيرها سد باطني، ويؤدى تجمعها إلى وجود خزانات طبيعية يعتمد عليها سكان المنطقة، إضافة إلى بعض الآبار.
إضافة إلى مياه الأمطار توجد بالمنطقة بعض الآبار الغنية بالمياه الصالحة للشرب مثل آبار: السنطة - عمريت – ديت – مبيضة – الشلاتين - هتريت – حماطه – المرات – أحمير – أنفاث – أبرق. إضافة إلى ينابيع الماء العذب التى تنبثق انبثاقا طبيعيا من باطن الأرض مثل: أبرق ـ أبو سعف، وهناك بعض الآبار التى جف ماؤها مثل: سيريت – البرايمه – الفواخير، وجميع هذه الآبار مقسمة بين القبائل المختلفة، ومسجلة فى وثائق يحفظها شيخ القبيلة، وفى غالب الأمر تستخدم هذه الآبار كفواصل طبيعية بين القبائل
نظرة تاريخية
تنتمي القبائـل التي تستوطن المنطقة إلى قبيلة / أم تسمى "البجا" بكسر الباء، وهذا تطور حديث، فقد كان المتقدمون من الكُتَّاب كالمسعودي، وابن سليم الأسواني، والمقريزى يكتبون الاسم بضم الباء، وبعدها ألف وهاء "البجاه"، وقد جاءت على هذه الشاكلة ـ كتابة ـ فى بدائع الزهـور لابن إياس، كما ترددت بأكثر من صورة فى معجم البلدان، فمرة البجاه، وأخرى البجة، وثالثة البجاء وفى صبح الأعشى " ومن الشرق بحر القلزم مما يقابل بلاد اليمن والأمكنة المجهولة الحال شرقي بلاد الزنج في جنوبي البحر الهندي، ومن الشمال البراري الممتدة فيما بين الديار المصرية وأرض برقة وبلاد البربر من جنوبي المغرب إلى البحر المحيط والمشهور منها ست مماليك؛ المملكة الأولى بلاد البجا، والبجا بضم الباء الموحدة وفتح الجيم وألف في الآخر، وهم من أصفى السودان لونا، قال ابن سعيد وهم مسلمون ونصارى وأصحاب أوثان
وهناك بعض الدراسات التى تعتمد على التواتر دون ذكر أية مراجع أو مصادر، على الرغم من الوثوقية التى تحتل جزءا كبيرا من خطابها، كاستخدام صيغ تبدأ بـ "يقال"، ثم يتبعها بـ "فى الغالب"، ويختتمها بـ "والمقطوع به" دون ثبت يؤكد على هذه الثقة، من هذه الكتابات متورد فى كتاب شريعة الصحراء يقول مؤلفه "ويقال لهم البجاه، أو البجه، وهم فى بادية الصحراء بين النيل والبحر الأحمر، وهم من بقايا الشعوب التى تألفت منها مملكة إثيوبيا القديمة"، ويكمل "وفى الغالب أنهم من سلالة أولاد كوش بن حام الذين هاجروا إلى السودان بعد الطوفان"، إلى أن ينتهي إلى "والمقطوع به أنهم من سلالة غير سلالة السود، وأنهم أقدم شعوب إفريقيا، ولم ينشأوا فيها، بل هاجروا إليها من آسيا عن طريق البحر الأحمر من عهد بعيد".
وفى اللسان: بجا بجا بجاء ، قبيلة ، و البَجاوِيَّاتُ من النوق منسوبة إليها ، قال ابن بري، قال الرَّبَعِيُّ : البجاويات منسوبة إلى بجاوة قبيلة يطاردون عليها ، كما يطارد على الخيل قال ، وذكر القزاز بجاوة وبجاوة بالضم والكسر ، ولم يذكـر الفتح ، وفي شعر الطرمّاح بجاوية بضم الباء منسوب إلى بجاوة موضع من بلاد النوبة ، وهو " بجاوية لم تستدر حول مثبر ولم يَتَخَوَّنْ درَّها ضَبُ آفن"، وفي الحديث كان أسلم مولى عمر رضي الله عنه بجاويا ، وهـو منسوب إلى بجاوة جنس من السودان ، وقيل هي أرض بها السودان.
"إن مزا أو مجا التى جاء ذكرها فى النقوش ( يقصد النقوش المصرية القديمة )، هى بلاد يسكنها قوم من البدو الرحل ويحتمل أنها تقابل قبيلة بجا الحالية " ويبدو أن الاسم قديم ، إذ إن شعب البجا كان معروفاً للمصريين القدماء باسم الماروى أو الماجوى ، ويبدو أنه قد تم في تطور لغوى لاحق إبدال الميم بالباء، وهو أمر ليس غريبا في اللغات السامية، لاحظ المفارقة هنا فى تطبيق قاعدة الإبدال الموجودة فى العربية وهى لغة سامية على لغة قبائل البجا وهى تنتمي إلى اللغات الحامية(!!) ، وكلمة البجا التي اشتقت من "البجاوى" – بعد الإبدال – معناها في الفرعونية الحارس أو المحارب، وقد اكتسبت قبائل البجا هذه الصفات المتعلقة بالقوة من خلال استعانة المصريين القدماء بهم فى أعمال الحرب وحراسة حدود الصحراء ففى الحملة التى قام بها بيبى الأول على بدو سيناء نجد أن الجيش الذى كان يقوده "ونـى"* لمحاربة بدو سيناء يحتوى على فيالق من الأقاليم، أو القبائل التى تقطن المنطقة الجنوبية والشرقية لمصر وضمنها البجا بطبيعة الحال كما استعان بهم رمسيس الثانى فى حربه ضد الهكسوس نظراً لمهارتهم وقوتهم، وبعد إحراز النصر أطلق عليهم اسم "ماجو"، وقد مجدهم بأن نقش صورهم بجواره فى الحرب، واللوحات الموجودة بمعبد إدفو شاهدة على ذلك ، ومما يؤكد هذه العلاقة المتواصلة بين المصريين وقبائل البجا أن الملك بيبى الأول قد أصدر منشورا يخاطب فيه رئيس المترجمين "للمجا" وهو ما يشير إلى حد ما إلى أنهم كانوا يخضعون لسلطان القضاء المصرى ، كما يعكس وجود أحد المترجمين فى هذا العهد دلالة مهمة، وهى احتفاظ هذه القبائل بلغتها بما لها من خصوصية، كما يعكس أيضا دلالة أكثر أهمية وهى احترام القدماء المصريين للغات الهامشية التى تخالف لغتهم فى أجروميتها. ويقال إن اسمهم قبل "البجا" كان "البليمين". وتعد قبائل البجا من الجنس الحامي الذي عبر البحر الأحمر من آسيا إلى إفريقية، وهم غالبا من سلالة أولاد كوش بن حام الذي هاجروا للسودان بعد الطوفان، وقبائل البجا تعيش فى الصحراء الشرقية على امتدادها فى مصر والسودان منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد وتدل البراهين على أن موقع بلاد "مزاو" (مجاو) ـ فى عهد ختام الأسرة السادسة ـ كان يقع شمالي الشلال الثانى، ومن المشكوك فيه كثيراً أنها كانت تمتد وراء ذلك الإقليم المصري الصغير وكانت تعيش على صيد الحيوانات التى كان يموج بها موطنها، وعندما اكتشف الفراعنة الذهب استعانوا بهم فى استخراجه ، و" منذ العهد العتيق، أو بعبارة أدق منذ عهد ما قبل الأسرات عندما ظهرت لأول مرة مساكن الفالحين للأرض فى وادى النيل، أخذ المصريون يوطدون التجارة والعلاقات الثقافية مع الأقوام والقبائل المجاورة، يؤكد ذلك أنواع المـواد المختلفة التى جلبت إلى مصر وبخاصة الذهب والعاج والنحاس، فقد تسلم المصريون الذهب من الصحراء الشرقية الواقعة بين النيل والبحر الأحمر. وكانوا يجلبونه غالبا من الجزء الجنوبي من هذا الإقليم الواقع جنوبي طريق فقط ـ القصير. والواقع أن المركز الرئيس على أية حال هو المنطقة الواقعة على الحدود الجنوبية لمصر، و قد اجتهد المصريون فى اختراق مجاهل هذه الأقاليم وإيجاد روابط تجارية مع القبائل المتوطنة هناك" لقد عاشت قبائل البجا ، تقدس إيزيس وأوزوريس ، كما كانت تزور معبد فيلة، وتحمل معها تمثال إيزيس، كيما تبارك لهم الحياة ، بعدها أقامت البجا لنفسها معبداً خاصاً فى جزيرة "بجه" المواجهة لجزيرة فيلة بأسوان كما نـزل الكهنة لموطن البجا لإقامة الشعائر الخاصة بالإله "آتون" ومن هنا تعلمت البجا اللغة المصرية.
وقد قويت العلاقة بين الفراعنة والصحراء، وسكانها، ومن سواحلها خرجت أساطيل حتشبسوت لبلاد بنط، وخرج الإله "منتو" إله الحرب الذى اتخذ له مقراً فى وادى الحمامات، وآخـر بوادي العلاقى الذي كان يتمتع بسحر خاص وقداسة لدى الفراعنة.
وكما دلت الشواهد التاريخية على أن "البجا" شعب محارب، فقد أكد هذه الدلالة أنهم حاربوا جنباً إلى جنب مع المصريين، ووصفهم الملك حابى فى الدولة الوسطى فى الألف الثانية قبل الميلاد ـ فى كتاب إلى ولى العهد وسماهم "الأعراب" ـ بالقوة، وأكد: لا تعادهم ولا تحاربهم، لأنهم يضربون ضربتهم، ويهربون فى الجبل، وحربهم غير مجدية لأنهم لا يملكون سوى أرواحهم كما أرسل "سنوسرت الأول" بعض الحملات لإخضاع القبائل المغيرة الخارجة عن النظام فى تلك البلاد، لدرجة أنه نصب على هذه الحدود لوحته المشهورة التى يتحدث فيها للمصريين عن الكفاح فى سبيل الوطن والمحافظة على حدود البلاد، فاستمع إليه وهو يقول: لقد جعلت تخوم بلادي أبعد مما وصل إليه أجدادي.. إلى أن يقول: لست بالرجل الذى يرضى لبه بالتقاعس عندما يعتدي عليه، أهاجم من يهاجمني حسبما تقتضيه الأحوال وإن الرجل الذى يركن إلى الدعة بعد الهجوم عليه يقوى قلب العدو".
قد أثبتت بحوث علماء علم الإنسان الذين فحصوا الجماجم البشرية فى كلا القطرين أن كلا من المصري والسوداني ينسب إلى سلالة واحدة هى السلالة الحامية، وقد ظلت هذه السلالة نقية حتى عهد الأسرة الثامنة عشرة حوالي 1580 ق.م . وذلك عندما أخـذت السلالة الزنجية الجنوبية تختلط بالسلالة الحامية فى الشمال بعض الشىء "، كما أثبـت "سلجمان " أن البجه والمصريين القدماء ينحدرون من سلالة واحدة ، أو من سلالات متقاربة ، وعلى الأخص سكان مصر الجنوبية الذين لم تمتزج دماؤهم بالمهاجرين من آسيا عن طريق برزخ السويس ، وقد اعتمد سلجمان على مقارنة الجماجم لإثبات وجهة نظره ، ومن خلال مقارنته وجد أن هناك تشابهاً تاماً بين أشكال المصريين القدماء ـ ومنهم بعض الملـوك ـ وأشكال البجا الذين يعيشون فى مواطنهم الحالية ، فالشعبان ينتميان إلي أصل واحد ، وإن كانت طبيعة البيئة قد سلكت بالمصريين طريقاً وأسلوباً فى الحياة ، وسلكت بالبجا مسلكاً أخر ، وانفصلت أوطان الفريقين فترة من الزمن إلي أن نشأت بينهما صلات لم يكـن إلا أن توجد بحكم التجاور والتاريخ.
بعد ذلك فقدت الدولة المصرية قدرتها في السيطرة على جنوب مصر خاصة بعد أن قويت البجا ، وأخذت تغير على سكان وادى النيل وتقوم بأعمال السلب والنهب ، وتعود ثانية للصحـراء ، معتمدة على تفوقها المتعلق بعلمها بطرق الصحراء ودروبها ، واستطاعت البجا أن تفرض سيطرتها على جنوب مصر لمدة قرن من الزمان من 425:525 ميلادية ، وذلك بعد اضمحلال الدولة المصرية القديمة ، وتمكن الرومـان من فرض سيطرتهم على مصر ، وهدمهم لمعبد "إيزيس" الموجود بجزيرة "بجه" ، بعدها تقهقرت البجا، وانعزلت داخل موطنها، ونزل الرومان إلى الصحراء لإحكام السيطرة على البجا، واستغلال مناجـم الذهب المنتشرة بوادي عباد، ووادي العلاقى، وبعد انحسار البجـا حاولت أن تجـد مصدراً أخر للدخل فأنشأت ميناء حلايب /"أيديهاب" كمحاولة لتعويض ما فقدته من أعمال السلب والنهب.
وبعد نشأة الميناء صنعوا مراكب بدائية، وهي عبارة عن جذوع نخيل الدوم المربوطة بحبال التيل، وذاع صيت الميناء بعد أن أصبح جسراً بين المنطقة، والجانب الآخر من البحر الأحمر (اليمن ـ الجزيرة العربية ـ الهند..) وبدأت تنتعش تجارة العبيد والتوابل وجلود الحيوانات، وريش النعام، والبخور، وزاد دخل البجا وازدادوا ثراءً، وأصبح ميناء حلايب هو الميناء الرئيس والوحيد لنقل حجاج إفريقية، وقد أقام الحجاج نحواً من مائتي سنة لا يتوجهون إلى مكة إلا من صحراء عيذاب، يركبون النيل فى المراكب إلى قوص، ثم يركبون الإبل من قوص إلى عيذاب، ولم تزل مسلكاً للحجاج ذهاباً و إياباً، من سنة خمسين وأربعمائة، إلى سنة ستين وستمائة، وذلك عندما انقطع من البر فى دولة الفاطميين؛ وقيل كان بعيذاب مغاص فى جزائر هناك.
ولما كان ميناء حلايب يقع على أطراف الصحراء الشرقية فى مصر فقد خضع للسلطان المصري الذي أرسل نائباً عنه ليقيم به بهدف الإشراف على إدارة الميناء، وجباية الضرائب التي بلغت نسبتها 31% من الدخل الكلى، ونظراً لشراسة البجا فقد كانت تقوم بسلب أموال الحجاج وأمتعتهم، وتعالت صرخات الحجاج لسلطان مصر ليحميهم من البجا، وكان الإسلام آنذاك يمارس توسعه، فقامت أربع حروب بين البجا وجيش المسلمين، انتهت كل حرب بعقد هدنة وسلام ولكن سرعان ما تنقضها البجا وتعود للحرب مرة أخرى.
وقد عين الناصر محمد ابن قلاوون فى سنة ست عشرة وسبعمائة تجريدة إلى صحراء عيذاب، بسبب فساد العربان، فعين ستة مقدمين ألوف، وألف مملوك؛ فلما وصل إلى هناك توجهوا إلى بلاد البجاة، وجاوزوا الأقاليم الثلاثة، ولم يظفروا بأحد من العربان العصاة، فتقلق العسكر، وكان غالب قوتهم الذرة، والشرب من الحفائر، فرجعوا إلى القاهرة من غير طائل.
كذلك فقد "قدم الخبر – فى شهر جمادى الآخرة سنة 767- بكثرة فساد أولاد الكنز، وطائفة العارمة بأسوان، وسواكن، وأنهم منعوا التجار، وغيرهم من السفر، لقطعهم الطريق، وأخذهم أموال الناس بغير حق، وأن أولاد الكنز قد غلبوا على ثغر أسوان، وصحراء عيذاب، وصاهروا ملوك النوبة، واشتدت شوكتهم ".
كما ذكر ابن جبير فى رحلته طرق السفر إلى هذه المناطق بالقوافل العيذابية، ومما ذكره " كان نزولنا على الماء بموضع يعرف بالعشراء، على مرحلتين من عيذاب، وبهذا الموضع كثير من شجر العشر، وهو شبيه شجر الأترج لكن لا شوك له، وماء هذا الموضع ليس بخالص العذوبة، وهو فى بئر غير مطوية، وألفينا الرمل قد انهال عليها، وغطى ماءها، فرام الجمالون حفرهـا واستخراج مائها، فلم يقدروا على ذلك، وبقيت القافلة لا ماء عندها، بعدها نزلنا ضحوة على ماء الخبيب، و هو بموضع بمرأى العين من عيذاب، يستقى منها القوافل وأهل البلد وهي بئر كبيرة كأنها الجب الكبير، ولما دخلنا عيذاب، وهي مدينة على ساحل بحر جدة، غير مسوَّرة، أكثر بيوتها الأخصاص، وفيها الآن بناء مستحدث بالجص، وهي من أحفل مراسى الدنيا بسبب أن الهند واليمن تحط فيها وتقلع منها، إضافة إلى مراكب الحجاج صادرة وواردة، وهي صحراء لا نبات فيها، ولا يؤكل فيها شئ إلا مجلوب، لكن أهلها بسبب الحجاج لهم على كل حمل طعام يجلبونه ضريبة معلومة خفيفة المونة، بالإضافة إلى الوظائف المكوسية التى رفعها صلاح الدين، كما قدم ابن جبير وصفاً لبحرها والمراكب التى تعبره، ووصفا لأهل عيذاب، وبعض عاداتهم وتقاليدهم.
ونظراً لأن هذه القبائل ازدادت شراسة، وسلبا لأموال الحجاج، فإن "بيبرس" بعد اعتلائه حكم مصر وضع خطة للقضاء على البجا ، وفى عام 1426 م خرجت الجيوش المصرية متوجهة إلى داخل الصحراء، وتحركت فى الوقت نفسه المراكب المحملة بالحجارة من ميناء القصير متوجهة جنوبا إلى حلايب، ودارت هناك معركة شرسة دمر خلالها ميناء حلايب .
لقد كان النسب فى قبائل البجا أموميا قبل دخولهم الإسلام، ثم تحول إلى النظام الأبوي، بعدها عرفت قبائلهم بأسمائها العربية (البشارية – العبابدة – الهدندوة – الأمرار – بنى عامر…إلخ ) ومعظم هذه القبائل وفروعها لازالت تقطن الصحراء وتتكلم اللسان البيجاوى، وهم يطلقون على كلامهم – عرفا – اصطلاح" الرطانه".
وتزاوج معظم القبائل بين الرطانة واللغة العربية، فقبائل العبابدة مثلا تتحدث العربية إضافة إلى إجادة معظمهم للرطانة التى لها أجرومية خاصة تحتاج إلى جمع وتصنيف وتحليل لصوتياتها وأبنيتها المختلفة. ويقال إن العبابدة تحدثوا العربية خلال سيطرتهم على ميناء عيذاب والذي كان الميناء الرئيس لسفر الحجاج؛ ومعظمهم بالطبع يتحدث العربية الآن.
أما باقي قبائل البجا فلغتهم حامية الأصل، وهى المسماة التبداوى وبداويت، ويرجع البعض مفردة "بِدَا " إلى أصولها فى مفردة "بجا" التى حدث لها تطور، ووصلت إلى "بَدِوْ"، ثم إلى "البدو" ويستثنى من هذا العشائر الجنوبية "بنى عامر"، ومن يجاورهم من الجماعات القليلة التى تتكلم لغة "تجره" وهى إحدى اللغات السامية المنتشرة فى "إريتريا" وبلاد الحبشة، وإن كان بعضهم يتكلم التبداوية، ومعظم قبائل البجا يعرفون العربية إلى جانب لغتهم (التبداوية – تجره)، لكن اللغة العربية ليست اللغة الأصلية بالنسبة لهم، على الرغم من احتفاظ بعضهم بورقة يسمونها "نسبه"، وهى ترجع بنسبهم إلى قريش، فاللغة العربية ما هى إلا أثر من آثار النفوذ العربي الذي دخل فى عهد متأخر نسبيا إلى أوطانهم ففي شرق السودان والجنوب الشرقي لمصر سنجد لغة تبداويت تنطق الجيم معطشة مشتبكة مع صوت الدالهى السائدة، وهى لغة البجا الذين يقيمون على تلال البحر الأحمر من مصر إلى كسلا ولهجاتها خمس: العبابدة – الحلنقا – الأمرار – البشاريين – الهدندوة، وهذه اللغة بفروعها الخمسة تعد من أوسع اللغات الحامية انتشارا، وقد حدث بينها وبين العربية صراع حتى شقت العربية طريقا لها مع التبداوية، وأخذت تضيق من نطاقها حتى رأينا البجا – أو معظمهم ـ يضطرون إلى تعلم العربية والتكلم بها مع احتفاظهم بالتبداوية، يتكلمون بها فى منازلهم ومجالسهم الخاصة ولكنهم فى المجالس العامة يتكلمون العربية وقد استعارت التبداوية من العربية كثيرا من الألفاظ والصيغ النحوية، وتسمى العربية عند البجا "البلوية" ولعلها نسبة إلى "بلى" إحدى قبائل اليمن التى هاجرت منها جماعات إلى شرق السودان، وكان لهم الزعامة السياسية فترة طويلة من الزمان، كما أن بعض هذه القبائل قد استقر بعدد من المناطق المصرية، ويطلق عليهم "عرب بِلِى".
وإذا كانت هناك عوائق قد عطلت انتشار العربية بين هذه الجماعات العرقية مثل العامل الجغرافى والسياسي فإن العامل الاجتماعي وتعلقه بالعادات والتقاليد كان أقوى العوامل، ففى الشعوب الحامية كالنوبة والبجا والبربر شاع قديما نظام سيادة الأمهات واحتفظت هذه الشعوب ببقايا هذا النظام وقتا طويلا بعد انتشار الإسلام بينهم، ويفسر أحد رواة البجا السبب فى أن العربية لم تتغلب تماما على البجاوية (التبداوية) بالرغم من نزوح العرب واختلاطهم ومرور أكثر من ألف سنة على ذلك فيقول "إن هجرة العرب كانت بأقليات من البشر" وربما كان أكثرهم من الرجال واضطروا للنزوح من البجا، فنشأ أطفالهم بين أحضان أمهاتهم البجاويات يتكلمون بلغتهن فى كل شئ، وربما يتأكد ذلك من خلال سيادة الأمهات فى المجتمعات الحامية، حيث كانت سيادتهن شائعة قبل الإسلام وظلت آثاره قائمة بعد دخول الإسلام وهذا النظام يجعل للمرأة السلطة الأولى فى أسرتها فإليها ينتسب أولادها ونظام التوريث عندهم على أساس النسب للأم ومن طريقها يورثون المال والسلطة فالوراثة تنحدر من الخال إلى أبناء الأخت أو بناتها، يقول المقريزي عن البجا: "وهم يورثون ابن البنت وابن الأخت دون ولد الصلب".